الجمعة، 11 أبريل 2014

أحداث احتلال مدينة وجدة سنة 1907م الحيثيات والتطبيق

        في يوم الجمعة 7 أكتوبر 1907م كتب عامل مدينة وجدة أحمد بن كروم الجبوري رسالة إلى أخيه قاسم بن كروم جاء فيها: " فاعلم أخي أن صبيحة يوم تاريخه الجمعة، اندفقت الجنود الفرنساوية علينا بقدر لا حدّ له: نحو خمسون مائة من العسكر، وعشرون مائة من الخيل بآلة الحرب والمدافع، ودخلوا وجدة، وحيث كلمناهم ذكروا بأن لهم على المخزن دعوة في شأن افرنساوي قتل بمركوشة، وهم الآن تمكّنوا من المدينة وضاقت بنا الأرجاء... ولا ناصر إلا الله" [1]

فما هي إذن الأسباب المباشرة التي جعلت هذه العساكر تتدفق على مدينة وجدة في صباح هذا اليوم، كيف دخلت المدينة؟ ما هي أهم الأعمال التي قامت بها الحملة يوم دخولها إلى مدينة وجدة؟ كيف استقبلها السكان؟ لماذا رحب سكان وجدة بالحملة الفرنسية؟

مدخـل

إن جل المصادر والتقارير المغربية والأجنبية تتحدث عن الحالة المزرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية التي عانت منها وجدة وكذا التهميش الذي طالها قبل الاحتلال الفرنسي لها، وهذا تاريخيا ليس بجديد عنها.  فمدينة وجدة عانت من التهميش  والإهمال والتسيّب منذ تأسيسها. فزيري بن عطية الذي أسّسها، هو نفسه الذي بدأ بتهميشها ولم يستقر بها بصفتها عاصمة له، والحكام الزيريون الذين خلفوه لم تحظ مدينة وجدة باهتمام ولا  بزيارة أي واحد منهم لها . وفي عهد المرابطين لم تزِد المصادر التي ذكرتها عن نصف سطر، ولم يكن حالها في عهد الموحدين بأحسن مما كانت عليه في عهد سلفهم من المرابطين. وفي عهد المرينيين أقطعها أبو الحسن المريني لأبناء الأمير أبي عبد الله بن أبي بكر الحفصي في المغرب الأوسط فبدأوا يأخذون جبايتها ويعسفون بأهلها على حدّ قول ابن خلدون. ثمّ توالت عليها حروبهم مع  بني زيان وتعرضت للتحطيم مرارا لدرجة أصبحت معها مدينة وجدة في نهاية دولتهم كما ذكر العبدري عبارة عن "رسوم حائلة وأطلال ماثلة"[2]. وفي عهد السعديين أصبحت تدوسها حوافر خيول السعديين تارة وخيول أتراك الجزائر تارة أخرى. وفي بداية العلويين أخذها أتراك الجزائر ولم يسترجعها المولى إسماعيل إلا بعد أن وقع معهم ما يعرف في التاريخ بـ " معاهدة وجدة "، وذلك في ذي القعدة من سنة 1103هـ/غشت 1692م[3]. ثم أخذها الأتراك مرة أخرى ولم يتم استرجاعها إلا على يد المولى سليمان سنة 1211هـ/1796م. وخلال القرن 19م عانت الويلات بعد دخول الفرنسيين إلى الجزائر، وداستها خيولهم سنة 1844م ثم سنة 1859م  وغيرها،[4]  وبعد ذلك بقيت هملا لنفسها ومرتعا لهجمات القبائل المجاورة لها، وفي سنة 1903 احتلها بوحمارة وهربت منها الحكومة الشريفة ، حتى إذا جاءت الحملة الفرنسية صبيحة يوم الجمعة 29 مارس1907م ظنت مدينة وجدة أنه سيكون لها فيها خلاصها، ففتحت لها ذراعيها وارتمت في أحضانها.

كما نجد صاحب المعسول يذكر على لسان القائد لخصاصي - بعد أن تحدث عن دخول الحملة الفرنسية إلى وجدة - قوله: " وقد خرج أهل وجدة مرحبين بالحملة الفرنسية كأنهم لا يعرفون أنها فاتحة احتلال عام لكل البلاد"[5] 

الأسباب القريبة التي مهدت لاحتلال وجدة  

لقد عملت فرنسا انطلاقا من الجزائر على خلق عدد من الأسباب الموضوعية التي بررت بها تدفق عساكرها على مدينة وجدة في صبيحة ذلك اليوم .

فمن أبرز تلك الأسباب إذكاء النزاعات بين القبائل الشرقية وإثارة الاضطرابات الداخلية وتشجيع الحركات المناوئة للمخزن بهدف خلق حالة من السيبة على طول الحدود الشرقية ومن ذلك على سبيل المثال حركة الجيلالي الزرهوني المدعو بوحمارة وما ترتب عنها من انعكاسات خطيرة على المغرب عموما وعلى المناطق الشرقية خصوصا وذلك بسبب الفتن التي أثارتها طيلة خمس سنوات ، مما أدى إلى عزل وجدة عن باقي البلاد وتخريبها وإنهاك قواها .

 ويلخص بلحسن الحجوي الوضعية جيدا حيث يقول "إن حالة العسكر تعسة... وفي بعض الأيام لما كلفت بالتفتيش في المحلة وجدت عددا من المرضى في حالة وسخة وبيلة ، والجوع يأكل أمعاءهم ولا دواء، ولا خيل لهم وإنما هم ملقون على قارعة الطريق .... جائعة بطونهم عارية أجسامهم، وحالتهم تبكي من لا يعرف البكاء، ويراهم الأجانب الذين ينتابون وجدة على أسوإ حال.." [6]

وتأكيدا لهذه الوضعية المتأزمة التي وصل إليها الجيش المخزني بوجدة، ما رواه القائد الناجم الأخصاصي الذي كان ضمن الجيش المخزني الذي خرج من وجدة عام 1325هـ/1907م، ثلاثة أيام فقط قبل الاحتلال الفرنسي لها، متتبعا ذيول بوحمارة في الريف ، قال بعد أن بحث عن العدّة والقرطاس ولم يجد شيئا: " فدهشت! وقد علمت أن القرطاس لم يطلق كله على الأعداء (بوحمارة) بل خُبِّئ بعضه عند الجند ليبيعوه من الغد للقبائل ليتوصلوا منهم بما يقتاتون به، لأن الضيق والفاقة قد بلغا بهم الغاية، وقد انقطعت عنهم المؤونة من أزمان ، وقد تمرّ ثمانية أشهر ونحن لا نتوصل إلا بمؤونة شهر! وقد نُعطى عن هذا الشهر أكياسا من السميد يُحْسَب علينا في ثمنها كل ما سنتقاضاه"[7].

أما من الناحية الاقتصادية فقد عملت فرنسا على فرض تبعية تجارية ونقدية شبه تامة على المنطقة الشرقية أدت إلى إضعافها وإنهاك قواها كمرحلة أولى نحو إحكام القبضة بشكل نهائي عليها،  حيث بدأت بتزويد مدينة وجدة وناحيتها المعزولة عن البلاد بجميع ما تحتاج إليه من مواد استهلاكية أساسية عن طريق مدينة وهران من سكر وشاي وبن، مقابل تزويد الغرب الجزائري بمنتوجات المغرب الشرقي الفلاحية من حبوب وأغنام وأصواف وجلود.

والملاحظ أن هذه المبادلات التجارية كانت تتم أساسا بالعملة الفرنسية ، أي الفرنك الذي أصبح الوسيلة الوحيدة للتعامل التجاري بالمنطقة.

ثم في مرحلة ثانية وابتداء من غشت سنة 1906  قررت الأوساط الاستعمارية ضرب حصار عسكري واقتصادي شديد على وجدة وناحيتها قصد إيقاف جميع المبادلات التجارية بين المدينة والغرب الجزائري وذلك بهدف تجويع السكان وإرغامهم على الرضوخ لمطامعها، مستغلة في نفس الوقت الوضع المزري الذي خلفه حصار بوحمارة على الجهة الغربية.

ومن عواقب هذا الحصار وهذا التطويق تضررت وجدة كثيرا وانهار اقتصادها، ومما زاد الوضع تأزما الجفاف الذي عرفه المغرب الشرقي لمدة ثلاث سنوات متتالية وذلك خلال سنوات 1903 ، 1904، 1905 مما أثر على أهم مصدر اقتصادي محلي المتمثل في تربية الماشية.

وبالإضافة إلى ذلك فقد حدث ارتفاع مهول في الأسعار نتيجة قلة البضائع من جهة، والقضاء على العملة المحلية، أي الريال الذي حل محله الفرنك الفرنسي في المبادلات التجارية من جهة ثانية، ويصف الحجوي انهيار العملة قائلا:

"...... صار الريال يساوي ثلاثة أرباع الريال فضة وما انتهى شهر حتى صار الريال بنصف ريال ..... ثم صار لا يساوي شيئا...."[8]

إن كل هذه العوامل وغيرها أدت إلى تضرر وتفقير الجماهير الشعبية بالمنطقة.

وهكذا لم يبق لفرنسا إلا البحث عن ذريعة لاحتلال وجدة، فوجدتها في مقتل الطبيب الجاسوس موشان بمراكش، فاستغلت فرنسا هذا المقتل لإثارة الرأي العام الأوروبي ضد المغرب لتبرير سيطرتها على جزء من ترابه كانت تتطلع إلى احتلاله منذ مدة طويلة .

دخول الحملة الفرنسية إلى وجدة

إن الأمر باحتلال وجدة وصل يوم الإثنين إلى الجزائر العاصمة إلى قائد الفيلق رقم 19 وبما أن الجنرال سيرفيير (Servieres) كان خارجا في جولة، فإن قائده في القيادة العليا أبرق إلى الجنرال ليوطي بوهران لكي يبعث لهم باقتراحاته حول الموضوع، إلا أن الجنرال ليوطي بدأ فورا باتخاذ الإجراءات اللازمة للحملة، حيث استغرق 48 ساعة لجمع ثلاثة آلاف رجل، وهو العدد الذي قررت الحكومة الفرنسية أن تستخدمه. ويوم الأربعاء مساء أعطى الجنرال ليوطي أوامره بالتعبئة والتحرك.

 خرج الجيش الفرنسي من تلمسان في اتجاه مدينة وجدة، ومر بعدد من القرى أهمها قرية للا مغنية حيث قضت بها الحملة ليلة كاملة قبل أن تتابع طريقها في الصباح إلى وجدة. هذه الحملة التي اشترك فيها قواد للمشاة والموظفين والصحفيين وضباط الفرسان وسيدة والخيالة بالمعاطف الزرقاء والزواويين Les Zouaves)) والقوات المساعدة الجزائرية  المرابطة في وهران (Les Sphahis) ، وكذا رافقتها القوات التي كانت ترابط في بركَنت[9] " Les goumier". وكان الجنود يحملون سلاحا جيدا للحرب، أما المدافع فكانت محمولة فوق العربات. وأثناء الطريق كان الجنود يتمتعون بروح عالية واثقين من نجاح العملية التي هم مقبلين على تنفيذها، نستشف ذلك من قول أحد الصحفيين المرافقين للحملة : "هؤلاء الجنود بدا عليهم الابتهاج، وأعطوا صورة لجماعة منضبطة، لم أسجّل أثرا لجنود متأخرين أو تائهين أو رجال مرهقين أو متعبين، كما نرى أحيانا في بعض الأقطار حيث يكون سلك الجندية فاقد النظام"[10] ثم يصف وجدة أثناء وصولهم إليها بقوله: " وجدة ماهي إلا قرية بدوية كبيرة... أزقتها مليئة بالوحل... شوارعها وأزقتها ضيقة وملتوية، المنازل منخفضة ونصف منهارة، السكان تعدادهم بين خمسة وستة آلاف، ويبدو أنهم كثيروا الحركة وفضوليون".[11]

 دخل الجيش الفرنسي إلى وجدة صباح يوم الجمعة 29 مارس حوالي الساعة العاشرة صباحا عبر باب سيدي عبد الوهاب متجها رأسا إلى القصبة حيث مقر السلطة المغربية، وأول عمل قاموا به هو نصب العلم الفرنسي فوق صومعة المسجد الأعظم الذي هو أعلى بناء في المدينة،[12] والذي تزعم رفعه هو بن سالم فاصلة من أصل جزائري[13] ثم توجه الجنرال ليوطي مع أفراد قيادته العليا إلى داخل القصبة حيث أقام بجناح غير مأهول في منزل العامل، هذا العامل (أحمد بن كروم)[14] الذي أبدى استلطافا في معاملة قواد الحملة وقدم لهم وجبة غذاء.   

من خلال تقرير لأحد الصحفيين رافق الحملة ، يصف جلسته أثناء وجبة الغذاء في منزل عامل وجدة حيث حضرها صاحب التقرير باعتباره صحفي مرافق للحملة، وقائد المشاة الاستعمارية، وعدد من الموظفين السامين، وعدد من الصحفيين، وسيِّدة، هذه الوجبة التي كانت تضم عددا من الأطباق الشهية وخروفا مشويا، وكانت جلسة هادئة حيث لا يصلهم أدنى ضوضاء من الخارج من جهة المنازل المجاورة ، وكانت السماء مشمسة، والورود مفتحة، لدرجة أنه تعجّب من ذلك بقوله :   " لا يمكن أن نصدّق أننا في المغرب وسط حملة عسكرية".

لقد تمّ في اليوم الأول لدخول الحملة إلى مدينة وجدة إقامة استعراض عسكري مهم داخل المدينة وسط مراسيم احتفالية قبل أن تنسحب الجيوش لترابط وراء الأسوار، ثمّ أطلِق سراح جميع المعتقلين السياسيين الذين وجدهم الفرنسيون في الزنازن، وقاموا بإدخال تنظيمات قاسية وصارمة كانت تتطلبها الحالة في مدينة وجدة التي عانت من تتابع الغارات عليها.[15] وبعد إعادة الهدوء إلى المدينة أصبح السكان مسالمين مما جعل أحد المرافقين للحملة يشيد بنجاح العملية بقوله: " ولهذا فإن احتلال وجدة كما تم،ّ شكّل في ذاته عملية عسكرية جديرة بالإشادة والثناء".      

ويمكننا أن نستشف مدى ارتياح ليوطي وسهولة مأمورية العملية التي قام بها من خلال الرسالة التي بعث بها إلى صديقه " دو فوكي" هذه الرسالة التي كتبها ليوطي (Lyautey) سنة 1907م وهو في الجزائر بعدما قام يوم 29 مارس 1907م باحتلال وجدة حيث قال فيها " لقد أرسلت بضع مئات من الجنود إلى المغرب وأنا في الجزائر، فعاد ضباطي مبتهجين ابتهاج اليهود عندما يرون أرض الميعاد، وإني أحِسّ أنني أكثر سيطرة على هذه البلاد من أي وقت مضى. وكذلك كنت أعلِّـل النفس عندما كنت أطلق العنان لآمالي في الزحف على المغرب شيئا فشيئا، واثقا من إرادتي، ومطمئنا إلى طريقي"[16]

رد فعل سكان مدينة وجدة على الحملة الفرنسية

إن المتتبِّع لعملية دخول الحملة الفرنسية إلى مدينة وجدة  ربما يستغرب عندما يجدها كلها تؤكد على أن هذا الدخول تم بسهولة ودون أن يتصدى له أي أحد ، بل تم دون شوشرة أو اعتراض لا من السكان[17]، ولا من ممثلي المخزن بها!  وذلك لأن الجنرال ليوطي قد أخذ بكل أسباب النجاح، كالاعتماد على تجربة من سبقه في احتلال المنطقة،[18] وغير ذلك من الأسباب الموضوعية لإنجاح هذه العملية التي لم تكن على حدّ قولهم  أكثر من نزهة عسكرية.

ورغم أننا لا يمكن أن نصدِّق كل ما أتت به التقارير الفرنسية حول دخول مدينة وجدة ، إلا أنه فيما يخص دخول الفرنسيين إلى المدينة دون أدنى مقاومة تذكر، يمكن أن نجد ما يدعَّم صدق ذلك في المصادر الوطنية ، وكذا في الأدب الشعبي، حيث نستشف ذلك خلال قصيدة الزجال هاشم بن بوبكر السعداني،[19] والذي يعتبر شاهد عيان لدخول الفرنسيين إلى وجدة، وقد أرخ هذه الحادثة بواسطة قصيدة زجلية بعنوان " دْخول وَجْدا" وهي قصيدة مطولة تتألف من 22 قسما، ولازمَتها كما يلي:

          يالاِسلامْ ابْكيوْا على دْخول وجْدا  *   دون حرْب، غنَمْها لعْدو اوْنَالْ المُرادْ

         رابُ لصْوارْ ونَدْخل رْصامْ العـزّ  ***   وكْسى ثوبْ الهوان فيها كل اعْزيزْ

        فكلمة " دون حرب" التي يرددها هاشم السعداني في لازمة قصيدته وهو شاهد عيان على هذه الحادثة تؤكد لنا ما جاء في التقارير الأجنبية.

كما نجد في الشعر الفصيح ما يؤكد الطرح السابق وذلك من خلال قصيدة فصيحة لشاعر مجهول رثى بها مدينة وجدة بعد دخول الفرنسيين إليها مطلعها:

   وجْـدٌ  تسعـّر  فـي الأحـشـاءِ  والتهـَبـا    ***   مُذ قيـل رُكْـن مـن الإسـلام قد ذهَـبا


   داهٍ  على وجـدة ٍ قـد أُسْلِمـتْ  جزعـاً    ***   من غيْر سيْـفٍ ولا قتْلٍ  ولا حـَرْبـا

   داهٍ  على  أسرِ الإسـلام  قـد  فـشـِلت     ***    واسْتـنصَرَتْ من بُغـاةِ الروم واعجبا


   قد أصبَح َ الدين ُ يُنْعى  كـل َّ نـاحِـيةٍ     ***   وآخِـرُ النـار في  لهـو  وقد  لعـِبــا

   تنافس َ النـّاس ُ فـي عُلوِّ البـناء ِ وفي     ***      مشاكـِلٍ  وبُنا الإسـلام قد خـرِبـا


   دأب ُ اليهـود على  ذل ٍّ ومـسـكـَنَةٍ       ***      قدْ أصْبحوا مُلزَمينَ الهـون  والغلبـا

   مـا عـيشكمْ  وظـلام ُ الكُـفر عـمَّكمُ       ***     النـومُ غـشّـاكمُ أمْ جـُبْـنكمْ غلَـبـا ؟

   إن  لم  تَخوضوا غِمار َالمَوْت  دونكم     ***      لِباسَ زوْجاتِكـمْ والتـَزِمـوا الحُجُـبـا


   عهدي بـِأسْرالشرى في الغرب شَاعِرَة   ***       لم ْ يَلقـها  بـطل  إلا غـدا  هَـربـا

   شـمُّ الأنوف ِ يهــاب ُ الليْـث صَوْلتهُمْ    ***        أبت نفـوسُهـمْ أن تَـشتكي اللَّـغـبـا


   مـا إن  لّهم  راحـة ُ إلا بقـرْع  عِـدا  ***        وَهَيِّنٌ  عِندهـمْ أن يَضربوا الرقـبـا..[20]


فهذه القصيدة كذلك تؤكد ما جاء في التقارير الأجنبية من أن الفرنسيين دخلوا مدينة وجدة " مـن غيْر سيْفٍ ولا قتـْلٍ  ولا حـَرْبــا".

لماذا رحب الوجديون بالحملة الفرنسية ؟

لقد ثبت من خلال شهود عيان أجانب كانوا أم مغاربة أن سكان مدينة وجدة رحّبوا بالحملة الفرنسية، ولكن هؤلاء السكان كانت لهم ظروفهم، فقد كان هذا الترحيب بالحملة الفرنسية خاصة من الفئات الشعبية التي سئمت مسلسلات الفتن التي تواترت على المنطقة الشرقية عامة ومدينة وجدة خاصّة ، فقد راودها شعور بالارتياح لأنها لم يكن لها الوعي الكافي لإدراك أبعاد ما يقع، إضافة إلى أنها كانت تأمل في أن ترى غدا أفضل بعد أن ضاقت في وجهها سبل العيش، ناهيك عن ضآلة قيمة العملة الوطنية كما ذكرنا سابقا. إضافة إلى الفئة المذكورة، كانت هناك فئة التجار التي جنت أرباحا طائلة من معاملتها مع الحاميات العسكرية ومن ارتباطها بالأسواق الجزائرية المجاورة، فضلا عن أملها في أن تحل لها الإدارة الجديدة بعض المشاكل المالية التي كانت معلقة.[21] هذا إضافة إلى عدد من الأسباب الخاصة بمدينة وجدة والتي نلخصها في ما يلي:

1- ضعف جيش المخزن: وقد تحدثنا عنه سابقا.

2- تواطؤ بعض رجال المخزن مع فرنسا : قال القائد الأخصاصي حول هذا الموضوع : " ثم جاءنا الأمر بأن نقلع من وجدة إلى الريف يوم انقطع بوحمارة إلى الريف، ولن ندر سبب هذا الأمر إلا بعد حين، فخرجنا متوجهين لما أمِرْنا به .... وبعد ثلاثة أيام احتلت فرنسا مدينة وجدة، فعرفنا أن هذا هو السبب.... فعلمنا حينئد أن من يلون شؤون الحكومة يريدون أن يخلو الجو للثائر لينتصر ويعلو شأنه تنفيدا للمخططات الفرنسية التي تعين الثائر، وتسخِّره لفائدتها"[22]

3- عيوب في التسيير المالي المخزني وارتكاب بعض الأخطاء في التسيير وإناطة المسؤولية المالية لأشخاص تنقصهم الأمانة والحس الوطني، وفي ذلك يذكر الضابط موجان في تقريره عن الناحية المالية بوجدة: " لن نتحدث هنا عن كل سرقات الأموال التي يمكن أن تحدث ولا عن كل الخروقات التي ترتكَب، ويكفي أن نقول أننا عرفنا أمينا توفر على حساب جاري، به مبالغ هائلة في أحد أبناكنا، وذلك عند مغادرته لوجدة"[23]  

4- ضعف الحامية المخزنية المرابطة بمدينة وجدة: لقد علمنا من خلال التقارير التي وصفت دخول وجدة أن عدد الجنود في الحملة العسكرية  الفرنسية قد بلغ 3.000 رجل ناهيك عن الخيالة وكَوم بركّنت. أما فيما يخص حامية وجدة فقد ذكر الضابط موجان في التقرير الذي وضعه عن وجدة سنة 1906 وهو شاهد عيان كذلك أنّ : " ثلاثة أرباع جيش وجدة قد فرّ، والعدد الحالي على أكثر تقدير لا يتعدى 300 رجل"[24]، معناه أن جيش الحملة الفرنسية الذي دخل وجدة يساوي على الأقل عشر مرات جيش المخزن المرابط بها ، ويساوي في نفس الوقت - على الأقل- نصف العدد الإجمالي للسكان بها. هذا إذا أخذنا بصحة كلام التقارير الفرنسية، أما إذا رجعنا إلى مصادرنا الوطنية والتي كان أصحابها شاهدي عيان كذلك، فإننا نجد أن عدد جيش الحملة هو 5.000 جندي إضافة إلى 2.000 من الخيالة، وهو ما مجموعه 7.000 عسكري هاجمت كلها مدينة وجدة[25] معناه أن عدد جنود الحملة الفرنسية التي دخلت وجدة كان أكثر من عدد سكان المدينة، وبذلك فلا مجال لكي نلوم سكان مدينة وجدة في ترحيبهم بالحملة الفرنسية.

5- إضافة إلى ذلك، هناك عدم اهتمام الحكام بمدينة وجدة لا قبْل دخول الحملة إليها ولا بعد دخولها ، نستشف ذلك من خلال رسالة المولى عبد الحفيظ التي كتبها - بعدما ثار على أخيه المولى عبد العزيز- إلى القائد المدني لخصاصي يطلب منه فيها مبايعته، حيث قال فيها: " وطالما رأينا وسمعنا ، ولا زاجر ولا واعظ ولا من يتّعِظ. أخِذت وجدة ، فاتّخذنا أمرها هُزُءا ولعِبا وتهكّما وسخرية، ولم يجد أهلها لا ناصرا ولا معينا"[26] .

وبهذا تتبيَّن لنا أسباب أخرى من الأسباب الموضوعية التي جعلت سكان مدينة وجدة يرحِّبون بالحملة الفرنسية أوبصيغة أخرى لا يبدون تجاهها أية مقاومة ما داموا لا قِبَل لهم بها، وما دام حكام المغرب " اتخذوا أمرها هُزُءا" وما دام أهلها لم يجدوا " لا ناصرا ولا مُعينا".

رد فعل سكان وجدة تجاه المحتلين الأجانب                   

غير أنه بعد استقرار الفرنسيين بمدينة وجدة، ولما لم يجد سكانها لا في الحملة العسكرية ولا في الفرنسيين ما كانوا يرومونه، ناضلوا ضدّهم بكل قوّتهم ، حقيقة أن كفاح الوجديين كان يتسم في البداية بالعفوية وعدم التنظيم وذلك بسبب الارتباك وعدم وجود قيادة مؤطرة، إلا أنهم استطاعوا الوقوف في وجه المستعمر ببطولة رائعة ، إذ وجهوا له الضربات المتتالية . وتسجل المصادر الفرنسية نفسها أمثلة كثيرة لأساليب المقاومة المختلفة التي واجه بها أبناء وجدة المحتل الفرنسي، نذكر من ذلك على سبيل المثال:

-       هجوم السكان على الجنود والضباط الفرنسيين وخاصة منهم الملازم موجان رئيس البعثة العسكرية الفرنسية بوجدة الذي أصيب بجروح[27].

-       الهجوم على الرعايا الفرنسيين الذين بدأوا يتوافدون بكثرة على وجدة ، وهذا ما جعلهم يعيشون حالة من الرعب والقلق.

-       الانتقام من المحميين المغاربة والجزائريين واليهود ومن جميع المرتبطين مصلحيا بالمستعمر وعلى سبيل المثال نذكر ما حدث للجزائري الحاج العربي بلحبيب حينما عزل من منصبه كقاض بوجدة ونفس الشيء بالنسبة لأخويه الذين كانا حزابين بجوامع المدينة [28]    

-       وعلى المستوى الرسمي تحرك كذلك موطفوا المخزن بالمنطقة حيث أصدر عامل وجدة ، أحمد بن كروم الجبوري قرارا يمنع بموجبه السكان باستعمال سيارة النقل العمومي التي أدخلها سوان (Souin) أحد رجال الأعمال الفرنسيين المقيم بمغنية ، وذلك للربط بين وجدة والمدينة الجزائرية، ومباشرة بعد ذلك استجاب السكان للقرار فهاجموا السيارة بالحجارة ودمّروها وجرحوا سائقها.[29]

-       وعلاوة على ذلك فقد تمت مقاطعة البضائع الفرنسية والأسواق التجارية الموجودة غرب الجزائر.

-       كما تجدر الإشارة إلى أن  وجدة أول مدينة مغربية انطلقت منها شرارة الثورة - بعد نفي الملك محمد الخامس- يوم 16 غشت من سنة 1953م، بينما تأخرت باقي المدن المغربية أربعة أيام قبل أن تحذو حَذو مدينة وجدة وتقوم بالثورة العارمة يوم 20 غشت 1953م، واستمرت مدينة وجدة في نضالها ومقاومتها للفرنسيين، ولم تهدأ إلا بعد رجوع الملك محمد الخامس من المنفى وإعلان استقلال المغرب.

وبذلك يتضح لنا أن مدينة وجدة - رغم ترحيبها بالحملة الفرنسية نظرا للظروف الخاصّة التي كانت تمرّ بها- تعتبر من أكثر المدن المغربية وفاء للمغرب وأهله.

 

خلاصة

لقد أدركت السلطات الاستعمارية أهمية وجدة من الناحية الاستراتيجية كمنفذ وحيد ورئيسي يضمن لها الهيمنة على باقي المناطق المغربية ، لهذا سخرت كل طاقاتها المادية والبشرية وإمكاناتها العسكرية قصد احتلالها مبكرا.

وأمام تفوق المستعمر وخبرته ، فقد تمكنت فرنسا من بسط نفوذها على مدينة وجدة في صبيحة يوم الجمعة 29 مارس 1907م.

غير أن شعلة المقاومة لم تنطفئ ، بل استمرت ضد الوجود الأجنبي إذ سرعان ما اتخذت شكلا جديدا خاصة حينما تبلورت في إطار الحركة الوطنية بشكل أكثر تنظيما واشدّ عنفا على المستعمر.




[1] - المنوني، المصادر التاريخية للمغرب الشرقي في القرن 19م،ندوة مدينة وجدة بين الماضي والحاضر، ص. 404.
 
[2]- العبدري، الرحلة المغربية، ص.279.
[3] -  S.I.H.M, 2ème série, France, T.III, p. 508.
  - ذكر الريفي، أن هذه المعركة كانت في 27 رمضان 1103هـ وهو ما يوافق 12 يونيو 1692م، أنظر، زهر الأكم ، ص. 45.
[4]- كانت القبائل الواقعة في شرق الجزائر المحتلة تهاجر جماعات وفرادى إلي داخل المغرب وبالأخص إلى منطقة وجدة، الأمر الذي دفع بالضباط الفرنسيين إلى تجهيز حملة في اتجاه المناطق المذكورة في صيف 1859م، أي بعد انتهاء الحرب في إيطاليا. وفي هذا الإطار لم يتوان الجنرال DeMartimprey في إعداد العدة وحشد القوات التي عسكرت بالضفة اليمنى لوادي كيس في 8 أكتوبر 1859م، ورغم أن داء الكوليرا تفشى في صفوف الجيش وقتل منه حوالي 4 آلاف قبل وصوله إلى جبال بني يزناسن، فقد تابعت الجيوش طريقها إلى وجدة ودخلتها في 8 نونبر، وبعد رجوع الفيلق إلى تلمسان حاملا عددا من المرضى كان قد فقد في المجموع 6 آلاف جندي. انظر بقية التفاصيل في تقرير ( (Paul Bluysenص: 275.   
[5]- محمد المختار السوسي، المعسول، 20/49.
[6] - الحجوي، الرحلة الوجدية، مخ بقسم الوثائق، الخزانة العامة بالرباط، رقم 123ح، ص: 55 وما بعدها.
[7]- محمد المختار السوسي، المعسول، ج.20، صص، 48-52.
[8] - الحجوي ، م س، ص: 59.
[9]- بركَنت هي عين بني مطهر حاليا، وكانت قد دخلت تحت الاحتلال الفرنسي منذ سنة 1904م.
[10]-  Bluysen Paul, Ibid, p. 278.
[11]- Bluysen Paul, L’occupation d’Oujda, P, 280.
[12]- وهي الصومعة الوحيدة التي كانت في وجدة في تلك الفترة، أما اليوم فيوجد أكثر من 175 صومعة في المدينة.  
[13] - بن سالم فاصلة الذي تزعم رفع العلم الفرنسي فوق الجامع الأعظم يوم الجمعة أول يوم من الاحتلال الفرنسي لوجدة وهو من أصل جزائري وأول من فتح بمدينة وجدة مطحنة عصرية تستعمل جهازا بالبترول .
[14] - أحمد بن كروم البخاري، تقلد منصب عامل إقليم وجدة من 1902 إلى 1922م
[15]-  Bluysen Paul, Ibid, p. 282.
[16]- مصطفى العلوي، الحرب المغربية الإسبانية (1906-1936) المناورات الأجنبية ضدّ السيادة المغربية، ط.1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1994، ج.4، ص: 65.
[17]-  Bluysen Paul, L’occupation d’Oujda, p. 273.
[18]- لقد استعان ليوطي في هذه الحملة بشخصين شاركا في حملة 1859م على وجدة رغم انهما تقاعدا عن الخدمة العسكرية وذلك ليستفيد من تجربتهما السابقة، أحدهما القبطان Bunel عمره يفوق 82 سنة والآخر صديقه وقد عمل معه في نفس الحقبة، وقد تبعا فيالق الفرسان بنشاط كبير. أنظر:  Bluysen Paul, Op.Cit , p. 273 
[19]- هاشم بن بوبكر السعداني، فاسي الأصل وجدي الإقامة، كان نموذجا لشعراء الملحون الذين استجابوا للنداء الوطني، فأرسلوا بنادق كلماتهم صوب رؤوس جماعة من الخونة الموالين للاستعمار، فنظموا عددا من القصائد الزجلية لاستنهاض همّة المواطنين المخلصين. وقصيدة هاشم السعداني "ادْخول وَجْدا"هي قصيدة زجلية تؤرخ لاحتلال مدينة وجدة وتعتبر مرجعا هامّا للباحث في فترة احتلالها، وهي رائعة وطويلة، بلغ عدد أبياتها ما يقرب من مائتي بيت في 22 قسما على وزن "المبيَّت" ، فرغ من نظمها في رمضان 1325/1907 ، حيث نشرت بالمطبعة الحجرية الفاسية في 12 صفحة من الحجم المتوسط. بحوزتنا نسخة منها. 
[20]- هذا القسم هو الموجود منها، أورده المرحوم المنوني في مقاله عن المصادر التاريخية للمغرب الشرقي في القرن 19م، ندوة المغرب الشرقي بين الماضي والحاضر، منشورات كلية الآداب بوجدة، 1986م.
[21]- منذ سنة 1905 وعدت الإدارة المخزنية فئة التجار بوجدة أن تحل لها بعض المشاكل المالية المتعلقة، ومن جملتها أن تعوض لها خمسين ألف فرنك من النقود النحاسية التي بخس ثمنها والتي أودعتها عند أمين الجمارك بالمدينة، بالنقود الفضية، على أساس 5 فرنك نحاسية مقابل 4 فرنك فضية، ورغم أن هذه المشكلة لم تكن خاصة بشرق المغرب، فإن الإدارة الفرنسية سوّتها خلال سنة 1907م. 
[22]- نفسه، 20/52.
[23]- Mougin, Oujda, p. 224.
[24]- Mougin, Oujda, p. 224.
- حقيقة أنه بعد أربع سنوات من الإشراف الفرنسي على التسيير المالي بناحية وجدة تبين أن هناك ارتفاعا في المداخيل واستمر في الارتفاع سنة بعد أخرى، وإن كان هذا الارتفاع في المداخيل واكبته زيادة في المصاريف.
[25]- أورد نصها كاملا  المنوني في مقاله عن المصادر التاريخية للمغرب الشرقي في القرن 19م، م س، ص. 404.
[26]- المختار السوسي، إيليغ، 20/189.
[27] - محمد بكراوي، احتلال وجدة سنة 1907، مجلة كلية الآداب وجدة، العدد الثالث، ص، 201.
[28] - نفسه.
[29] - نفسه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.