الجمعة، 11 أبريل 2008

النساء المغربيات ومقاومة الاستعمار الأجنبي: المرأة بعين بني مطهر نموذجا

شكلت معاهدة للا مغنية المنعقدة سنة 1845م[1] حدثا بارزا في تاريخ المغرب بصفة عامة وعين بني مطهر بصفة خاصّة، إذ أن الحدث لازمته مجموعة من الاعتداءات والترامي على التراب المغربي من طرف الحكومة الفرنسية التي كانت تهيّئ بصفة غير مباشرة لاحتلال المغرب عامّة ومنطقة رأس العين خاصّة. كما تكمن أهمية هذا الحدث في الإجراءات السياسية والاقتصادية لاستقطاب سكان المنطقة وفصلهم عن السلطة المغربية مع إثارة الفوضى والنزاعات داخل صفوف المغاربة، وبالتالي ضمان طاعة القبائل وولائهم ودرء خطرهم عن الحدود. حتى إذا جاء مطلع القرن العشرين وجدت الحكومة الفرنسية الأرضية ممهدة لاحتلال المنطقة خاصة والمغرب على العموم.

فمنطقة عين بني مطهر بحكم موقعها على الحدود المغربية الجزائرية وبحكم أن الاستعمار قد دخل للمناطق المجاورة لها منذ سنة 1830م فإنها كانت من أولي المناطق المغربية التي اكتوت بنار الاستعمار في العصر الحديث، وبطبيعة الحال ستكون هي كذلك من أولي المناطق المغربية التي بدأت مقاومة هذا الاستعمار، وقبائلها من أولي القبائل المغربية التي رابطت على الحدود وعملت على حراسة الأراضي المغربية وردّ هجمات المعتدين. لذلك فإننا عندما نتصفح الكتب والتقارير التي تتحدث عن هذه الفترة في هذه المنطقة نجد كثيرا من الأحاديث عن مقاومة رجال قبائل منطقة عين بني مطهر وعن جهادهم وبسالتهم ونضالهم من أجل الوقوف في وجه المستعمر والحيلولة دون دخوله إلى المغرب في مرحلة أولى، ثم طرده من البلاد في مرحلة لاحقة.

غير أن الملاحظة الوجيهة في هذا الموضوع هي أننا خلال بحثنا في موضوع المقاومة في هاته المناطق فإننا لا نعثر على حديث يخص المرأة في عين بني مطهر ولا أدنى إشارة إلى مقاومتها أو وقوفها بجانب الرجل، علما بأن بعض أعمال المقاومة سواء في هذه المنطقة أو في غيرها، لا يمكنها أن تتمّ على أحسن وجه دون مشاركة المرأة فيها والإدلاء بدلوها مع الرجال سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

I  -  نظرة عن المقاومة النسائية بالمغرب


 إن المقاومة النسائية بالمغرب ليست وليدة ضعوط استعمارية أفرزتها ظروف المغرب الحديث ، بل إن مقاومة الاستعمار هو مبدأ وعقيدة عند المرأة المغربية ورثتها منذ الأزل، وفي التاريخ المغربي نماذج متعدِّدة للمرأة المغربية المقاوِمة تكررت عبر العصور، سواء قبل الإسلام أو خلال عهود الدول الإسلامية المتعاقبة عليه من مرابطين وموحدين ومرينيين وكذا في عهد الوطاسيين والسعديين والعلويين .


وبدا دور المرأة المغربية في ميدان المقاومة واضحا أكثر خلال القرن العشرين، فقد أبلت البلاء الحسن بجانب إخوانها من الرجال المناضلين، حيث أشاد عدد من المقاومين في مذكراتهم بأهمية الدور الذي اضطلعت به المرأة إلى جانبهم. وحتى النصوص الأجنبية لم تغفل الحديث عن هذا الموضوع الهام والإشادة به، بل بعض المرات عزت سبب انهزام المستعمر في المعارك إلى الدور الفعال الذي قامت به المرأة المغربية في هذه المعارك، وفي هذا الموضوع نجد مراسل جريدة مدريدية - على إثر مراقبته لإحدى المعارك في شمال المغرب- يقول " اليوم شاهدت شيئا جعلني أغير رأيي في المرأة المغربية وذلك على إثر ما رأيناه نحن الصحفيين جميعا من أعلى الهضبة التي كنّا منها نراقب العمليات العسكرية التي جرت هذا اليوم بمركز سيدي أحمد الحاج حيث كانت النساء المغربيات هنّ اللاتي يقمن بجميع الخدمات في مؤخرة المجاهدين، تساعد الجرحى وتقوم بنقلهم بعيدا عن أرض المعركة وتزود المقاتلين بالماء إلى غير ذلك... ."[2]

ومن نماذج المرأة المغربية المقاومة خلال القرن العشرين هناك السيدة فايدة الحسن التي برزت في الحرب الريفية في ميدان التجسس على الإسبان ونقل أخبارهم للجنود المغاربة،[3] والحاجّة فاطنة المالقية رئيسة شبكة للمقاومة بين سلا وتطوان،  والشهيدة فاطمة بنت علال أول شهيدة سقطت في معركة واد زم يوم 20 غشت 1955م والسيدة مليكة الفاسي التي مثلت المرأة المغربية في التوقيع على وثيقة الاستقلال، ويامنة إقبال في خنيفرة التي امتطت صهوة الجواد وحرضت المقاومين في ثورة 20 غشت، والسيدة آمنة البرحيلية بمدينة وجدة والتي قامت بأدوار مهمة في ميدان المقاومة والنضال.

1- أشكـال المقاومـة النسائيـة:

إذا بحثنا عن مساهمة المرأة المغربية في ميدان المقاومة، فسنلاحظ أن هذه المساهمة كانت على مستويين، المستوى الأول هو مساهمة المرأة بصفة مباشرة في المقاومة، والمستوى الثاني هو مساهمتها بصفة غير مباشرة، وذلك بواسطة زوجها المقاوم.

أ- المساهمة المباشرة للمرأة في المقاومة

فمن حيث مساهمتها المباشرة، نجد أنها ساهمت في ميادين كثيرة تفوق من حيث تنوعها وتعدّدها الميادين التي شارك فيها الرجل.

* شاركت المرأة في المقاومة السياسية بانخراطها في الأحزاب والمنظمات السياسية، وعملت على تأطير النساء وتوعيتهم بالقضية الوطنية، وقامت بنسخ المناشير وتوزيعها وتوزيع رسائل التهديد على المعمرين ونقل الأخبار من مكان لآخر ومن منطقة لأخرى، كما شاركت في التوقيع على وثيقة الاستقلال بجانب الرجل، إلى غير ذلك من الأعمال....  .

* شاركت في المقاومة المسلحة وذلك بنقل الأسلحة من منطقة لأخرى مثلا من الناظور إلى وجـدة، خاصة بعد نزول الباخرتين المحملتين بالسلاح في منطقة الناظور، ثمّ من تطوان إلى العرائش والقصر الكبير، وكذا إلى عدد من مدن المنطقة السلطانية مثل سلا والدار البيضاء وغيرهما، بل بعضهن قمن بصنع القنابل والأسلحة النارية ومساعدة الرجل على تنفيذ العمليات الفدائية، ومنهن من قامت بأعمال فدائية بصفة انفرادية، بل قامت في بعض المرات بإشهار السلاح في وجه المستعمر والضرب به، إلى غير ذلك من أنواع الأعمال المسلحة والعسكرية.[4]

 * أما مشاركتها من الناحية الاجتماعية فحدث ولا حرج من طبخ للمقاومين وغسل ملابسهم وإيصال الطعام لهم داخل السجون ووسط المغارات وتضميد جروحهم، بل تقمّصت المرأة المقاومة في جبال الأطلس المتوسط بدور الممرضة والطبيبة حيث يحدثنا أحمد المنصوري، في كتابه كباء العنبر، أن المرأة خلال بعض المعارك في الأطلس المتوسط قامت بخياطة بطون المقاومين التي فجرتها قنابل العدو وكذلك خياطة أعضائهم المبتورة بواسطة خيوط انتزعتها من منديل رأسها " السبنية " وعقمتها.[5]

ب - المساهمة غير المباشرة للمرأة في المقاومة


أما من حيث مساهمتها الغير مباشرة أعني مشاركتَها في المقاومة عن طريق  زوجها المقاوم ، فنلاحظ أن كل مقاوم لابد أن زوجته شاركته في هذه المهمة سواء عن قصد أو عن غير قصد، ذلك أن زوجة المقاوم كانت تقوم بإيصال الرسائل الشفوية إلى المقاومين الذين يطرقون بابها للسؤال عن زوجها وكذلك تسليمهم الرسائل الكتابية والمناشير، ثمّ تقوم بحراسة الأسلحة المخزونة في منزلها، وطهي الطعام للمقاومين المجتمعين في دارها، وغسل ثيابهم. ناهيك عن تعرضها للاستنطاق في مخافر الشرطة في حالة تخفي زوجها إثر قيامه بأعمال فدائية، إضافة إلى ما تتعرض إليه من جراء ذلك من تهديد وضرب وغير ذلك من أشكال المهانات .

2- المشاكل التي تعترض المرأة المقاومة:

إن الرجل المشارك في ميدان المقاومة تعترضه مشاكل متعدّدة ومتنوعة، غير أن المرأة المقاومة إضافة إلى ذلك تعترضها مشاكل نوعية، فكونها امرأة هذا وحدُه كان كافيا لكي تعترضها صعوبات كأداء في أداء مهمتها. إضافة إلى خصوصيات أخرى أفرزتها الظروف الجغرافية والسياسية والاجتماعية والثقافية المحيطة بها.

فانخراط المرأة في ميدان المقاومة كان يفرض عليها نهج سلوكات جديدة في المجتمع مخالفة للمرأة العادية، أقلها الخروج للشارع والاحتكاك بالرجال المقاومين. والمجتمع المغربي بقيمه وعاداته – خصوصا في ذلك الوقت - كان لا ينظر للمرأة باحترام كبير عندما توسِّع نطاق احتكاكها واختلاطها بالرجال، بل يعتبر هذا السلوك مخالفا لما يجب أن تكون عليه المرأة في سلوكها وعلاقتها الخارجية حتى ولو كانت مقاومة.


وللأسرة أيضا دور في الحدّ من نشاط المرأة وفاعليتها داخل ميدان المقاومة، فلا تبدي الأسرة ارتياحا لالتحاق المرأة بميدان المقاومة، وتعارض ذلك بشدّة خاصة إن لم يكن أحد أفرادها مقاوما، وغالبا لا تبدي مرونة أو تسامحا حول هذا الموضوع إلا إذا استشهد أحد رجالها، فينمو لديها نوع من الحقد والكراهية تجاه المستعمر يجعلها تسعى للانتقام منه بشتى الوسائل. بالإضافة إلى عامل الزواج المبكر والحمل والولادة وتربية الأطفال ورعاية البيت، كل هذا يحدّ من نشاط المرأة في ميدان المقاومة ويشكل خصوصية لديها لا توجد عند الرجل.


ورغم ذلك فقد وجدنا أن مشاركة المرأة المغربية في ميدان المقاومة تمثل نسبة مهمّة رغم المثبطات التي ذكرناها أعلاه، بحيث نجد عدد الشهيدات في معركة واحدة كمعركة جبل صاغرو يصل إلى 217 شهيدة حسب إحصائيات المستعمر والرقم قد يكون أكثر بكثير.

أما بالنسبة للخصوصيات الجغرافية والسياسية للمقاومة النسائية بالمغرب، فنلاحظ أن الموقع الجغرافي والمناخ الاجتماعي والسياسي السائدين في منطقة ما، قد أثرا بشكل مباشر على خصوصيات المرأة المقاومة وعلى نوع الأعمال التي تقوم بها.

وهكذا نجد تباينا بين المناطق، فالظروف التي توفرت للمرأة الفاسية من مدارس وثانويات ومهد لأقطاب حزب الاستقلال، أو الظروف التي توفرت للمرأة التطوانية أو الرباطية ليست هي نفس الظروف التي توفرت للمرأة في المغرب الشرقي عموما والمرأة بمنطقة عين بني مطهر خصوصا .

 - IIمقـاومـة المـرأة في الجهـة الشرقيـة:

رغم خصوصيات المرأة في المغرب الشرقي وظروفها الصعبة فإننا نجد بعض النساء قد أبلين البلاء الحسن وقمن بأعمال تشرف المرأة المغربية عموما والمرأة بالجهة الشرقية بوجه خاص، وكمثال على ذلك منطقة وجـدة، فنظرا لقرب هذه المنطقة من الناظور فقد ضلعت المرأة هناك في نقل الأسلحة من الناظور إلى وجـدة ثم في تخزينها وإعادة توزيعها وإيصالها إلى مناطق بعيدة وخاصة إلى الدار البيضاء. كما كانت المرأة الشرقية وخاصة الوجدية منهن تنتقل إلى هناك لكي تشارك الرجل في بعض الأعمال الفدائية ثم تعود، وكمثال على ذلك السيدة آمنة البرحيلية التي ضبطت متلبسة وقضت سنة كاملة في سجن عين قادوس بمدينة فاس.

1- المقاومة النسائية بعين بني مطهر:

أما منطقة رأس الماء أو عين بني مطهر فرغم صغر القرية على ذلك العهد وقلة السكان مما يجعل تحرك الشخص من مكان لآخر محسوبا عليه وعين الاستعمار تراقب كل شاذة وفاذة، فقد تمكنت المرأة من أن تقوم بدور مهم في ميدان المقاومة وتشارك بجانب أخيها الرجل بكل ما تقدر عليه كتعبير منها بوعيها الوطني ووطنيتها التي لا تقل أهمية عن الرجل بمنطقتها .

ورغم أن هناك الكثيرات في هذه المنطقة المجاهدة ورغم أنه لا يمكن أن توجد جماعة من الرجال تقاوم وتناضل دون أن تكون وراءهم امرأة تساعد وتطبخ وتحتفظ بأسرار زوجها وتهدّئ من روعه في ساعاته العصيبة، فإن الظروف الجغرافية والاجتماعية للمنطقة جعلتها لا تبرز للعيان وبقيت مناضلة ومقاومة في الظل جزاءها عند ربها( الآية) ورغم ذلك استطعنا أن نعثر على نموذج مهم من المرأة المناضلة في منطقة عين بني مطهر ونجري معها حديثا ونستفسرها عن أهم أحداث المقاومة في جهتها ووقوفها بجانب الرجال للدفاع عن حرية منطقتها والتي هي جزء لا يتجزأ من حرية المغرب ككل. وما هي إلا نموذج لنساء كثيرات من هذه المنطقة قاومن وناضلن وانتقلن إلى الدار الآخرة دون أن يذكرهن أحد أو يسجلن على صفحات التاريخ فهن من الذين قال الله تعالى " من المومنين رجال صَدقوا ما عهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بَدّلوا تبديلا"[6]

المرأة التي تمثل نموذجا مشرفا للمرأة بعين بني مطهر هي امرأة أغلقت باب الثمانين سنة من عمرها ورغم ذلك لا زالت تتحدث عن المستعمر بكل حماس ووطنية مشوبة بحسرة عمّا قاسته هي وكافة سكان المنطقة من أعماله وإرهابه، هذه المرأة هي السيدة المقاومة فاطمة بن عدّي:

 

2- التعريف بالمقاومة فاطمة بن عدّي:

أ- من هي فاطمة بن عـدّي

 

فاطمة بن عدي سيدة ولدت بقرية عين بني مطهر في أواسط العشرينيات من القرن الماضي، وبالضبط فهي أغلقت وراءها باب العشرة الثامنة أطال الله في عمرها. ازدادت ونشأت وترعرعت في عين بني مطهر وسط أسرة عرفت بمقاومتها للاستعمار الأجنبي ونضالها من أجل استرجاع حرية الوطن، منهم  أعمامها مولاي التهامي بن عدي والبشير بن عدي وهما معا من المقاومين ومن جملة أعضاء حزب الاستقلال في تلك الفترة.

لم تدخل السيدة فاطمة إلى المدارس ولم تتلق تعليما، شأنها شأن كافة نساء منطقتها في تلك الفترة – إن لم نقل شأن نساء المغرب كله- ، ولكن ذكاءها وفطنتها ووعيها الوطني جعلها تفهم الحالة السياسية والاقتصادية المتدهورة التي وصل إليها المغرب في تلك الفترة، وكذلك نشأتها وترعرعها وسط جو وطني وأسرة مناضلة كل هذا جعلها تطلع عن كثب عمّا يكنّه الاستعمار الفرنسي للمغرب والمغاربة من حقد وكراهية. وقد عمل أفراد أسرتها وخاصّة أعمامها على توعيتها بما يجب عليها فعله من أجل المساعدة على طرد المستعمر الأجنبي واستعادة حرية الوطن. فتقبلت كلامهما بصدر رحب وانخرطت معهم في النضال الوطني. غير أن ضيق المجال الجغرافي للقرية وقلة السكان جعل تحركاتها محدودة. ورغم ذلك استطاعت أن تقوم بأعمال مهمّة من أهمّها مساعدة الرجال على القيام بمهامهم النضالية والجهادية وتسهيل مأمورية  التواصل بين جماعاتهم وفرقهم. ومن أهم ذلك:

ب- أهم الأعمال التي شاركت بها المقاومة فاطمة بن عدّي في ميدان المقاومة:

عملت السيدة فاطمة بن عدّي على المشاركة في ميدان المقاومة والنضال بجانب إخوانها المقاومين بعين بني مطهر بأعمال كثيرة ومتعدّدة منها:

- إيصال المنشورات والرسائل بين المقاومين، وإيصال المعلومات من بعضهم إلى بعض.

- جمع الدراهم من عند الأسر التي تثق بوطنيتها، وبتلك الدراهم تعمل على مساعدة زوجات وأبناء الوطنيين الذين يدخلون السجن ويتركون أسرهم وراءهم للإهمال والجوع .

- خزن أموال بعض المقاومين وتسليمها للبعض الآخر عندما يطلب منها ذلك (وعن طريقة ذلك تقول إنها كانت كان تقوم في منزلها بحفر الأرض ووضع بعض الثوب وتضع فوق نصفه الأول الدراهم ثم تغطيها بالنصف الثاني من الثوب، ثمّ تغطي الكل ببعض التراب،  ثم تضع بعض المغروسات فوق ذلك حتى لا يمكن للمستعمر أن يشك في أمرها).

ومن ذلك أنه في بعض المرات وصلت الأخبار بأن الفرنسيين يراقبون دكان المقاوم محمد بن عزي، فأخذ أصدقاءه من المناضلين الدراهم التي كانت في دكانه وبعض المستندات ونقلوها إلى منزل السيدة فاطمة ، حتى إذا داهم الفرنسيون الدكان لم يجدوا به شيئا. فبقيت عندها الدراهم ومتاعه مدة من أربعة أشهر حتى هدأت الأوضاع ثم أرجعتها إليـه.

- خزن بعض الأسلحة للمقاومين، ومن ذلك مرة أعطاها المقاوم محمّد العربي مسدّسين خبّأتهم لـه في منزلها مدّة من الزمن إلى أن احتاج إليهما وأرجعتهم إليه.

- نقل الرسائل والأخبار حتى إلى المناطق البعيدة عن منطقتها عين بني مطهر ومن ذلك أنها في بعض المرات جاءت لزيارة مدينة وجدة وكان أعمامها في سجن عين العقرب بضواحي تاوريرت، فاتصل بها أحد المسؤولين في حزب الاستقلال بوجدة (نسيت اسمه لطول المدّة) وطلب منها أن تحمل رسالة إلى أعمامها مولاي التهامي ومولاي البشير الذين كانا سجينين بالسجن المذكور. فقبلت طلبه وسافرت إليهم وتكبدت المشاق للوصول إلى هذا السجن الذي نصب في الخلاء والعراء وتعرضت للصعاب للوصول إليه مع ما صاحب ذلك من خوف من بطش المستعمر إذا ضبطها ومعها الرسالة. ورغم ذلك تمكنت من الوصول إلى السجن ورؤية عمها مولاي التهامي       - وتذكر أنها وجدت معه في السجن المقاوم اسليمان أوكروم- فسلمته الرسالة وأرجعت معها رسالة من عنده إلى أعضاء الحزب بوجدة.

أما عن الأشخاص الذين كانت تعمل معهم فمنهم: السيد بن عزي محمد، وابن عبد القادر القاضي كان مدرسا في وقت الاستعمار ثم بعد ذلك امتهن خطة العدالة، ثم السيد التسولي، والسيد الصنهاجي، والسيد كََََاسّو، والسيد بلخضر، والسيد بوعياد الطبيب وأخيه التهامي ، ثم السيد بناصر ويدّرن وأخيه إدريس، وغيرهم كثير ممّن حالت ذاكرتها دون تذكر أسمائهم.

ثم من الأشخاص الذين تعاملت معهم أكثر المقاوم محمد أوسعّود الذي تقول أنه كان من الوطنيين المخلصين الذين ضحوا بصحتهم ومالهم من أجل الوطن، ثم عبد الرحمن جدّار كان مخازنيا وكان يحضر عندها فتقوم بطهي الطعام وإرساله معه إلى السجن حيث يوجد المقاومون، كما كان يُحضِر لها كسوتهم من أجل تنظيفها ثم إعادتها إليهم.

غير أن القيام بمثل المهام المذكورة في منطقة مثل عين بني مطهر لم تكن لتمر دون أن تسترعي انتباه عين المستعمر، لذلك لما كثرت تحركات السيدة فاطمة في المنطقة - وبإيعاز من إحدى النساء- تعرض منزلها في أحد الأيام لمداهمة من طرف بعض عناصر الجيش الفرنسي وهي تطبخ الطعام لبعض المساجين فداسوا موقدها بأرجلهم واعتقلوها.

ونتيجة لذلك شبّت النار في بيتها فاحترق عن آخره، أما هي فقد قضت اليوم كله معتقلة في عين بني مطهر، وفي المساء نقلت إلى بوعرفة لتوضع في سجنه حيث التقت هناك بعدد من المناضلين، منهم بن تهيلة وبرادة، وسليمان أوكرّوم، وكثير من العناصر التي أتوا بها إما من عين بني مطهر أو من مدينة وجدة لكي تسجن هناك.

بقيت السيدة فاطمة بسجن بوعرفة أربعة أو خمسة أيام على ذمّة التحقيق ثم بعد ذلك أفرج عنها ونقِلت إلى فجيج إلى منزل والديها وجلست هناك مجبرة مدة سنتين ولم تتمكّن من الرجوع إلى عين بني مطهر، إلا بعد أن حصل المغرب على الاستقلال .

لم تنقطع السيدة فاطمة بن عدّي عن عملها الوطني برجوع الاستقلال إلى الوطن، بل استمرت في عملها ضمن الخلايا النسائية لحزب الاستقلال بعين بني مطهر وكانت تعمل على استنفار النساء للدخول في الحزب. وكانت تعقد اجتماعات دورية نسائية فتقوم بعض المسؤولات اللائي حصلن على نصيب من الثقافة بقراءة النشرات التي كانت تصلهم من حزب الاستقلال على الجمع النسائي، ومن بين هؤلاء النسوة اربيحة بنت مولاي الحسن العلوي وكذلك أم الخير الكَََلّية. وكانت السيدة فاطمة بن عدّي تتكلف بالناحية المالية حيث كانت تتوصل بطوابع من حزب الاستقلال عن طريق عبد الكريم الزاوي ومحمد أوسعّود (ولا يزال على قيد الحياة) .فتقوم بإلصاقهم على بطائق الانخراط الخاصة بالنساء وتجمع ثمنهم وتسلمها لأعضاء الحزب.

بقيت السيد فاطمة تتابع عملها مع أعضاء حزب الاستقلال بعين بني مطهر إلى أن مرضت وشعرت بالعياء فسلمت المهام لسيدة من أهل فاس تدعى مارية وتشتغل معلمة بعين بني مطهر، فتابعت السيدة المذكورة المهمة بعدها.

إذ داك ذهبت السيدة فاطمة إلى الحج وارتاحت من أعباء العمل الوطني والخوف من بطش المستعمرين.  وبعد مدّة وخاصّة بعد أن حصل أبناؤها على الشهادة الابتدائية انتقلت وإياهم إلى مدينة وجدة لمتابعة دراستهم وكان ذلك في آخر السبعينيات فاستقرت هناك حيث لازالت إلى اليوم .

لا أريد أن اختم هذه المداخلة دون أن أقول كلمة حق في هذه المرأة  المقاومة، وهي أنني حينما جلست مع السيدة فاطمة قبل أيام تحدثت معها مطولا رأيت فيها - رغم كبر سنّها- امرأة لازالت بها أمارات الذكاء والشجاعة والنضال وحب الوطن، ورغم طول المدّة فهي إلى اليوم تتحدث بكل أسى وحسرة عمّا لاقته هي وأبناء منطقتها من بطش المستعمر وغبنه.

جازاها الله خير جزاء وأطال في عمرها وعمر باقي المقاومين من أبناء وطننا المناضل.

تلكم كان نموذجا من نماذج الكثيرات من النساء المناضلات الذين غطى غبار الزمن نضالهم، حاولت أن أنفض بعضه عن واحدة منهن ولاشك أنهن كثيرات. جزاهم الله عنا خير الجزاء.




[1]- معاهدة للا مغنية تمّ توقيعها في 18 مارس 1945م بين الدولة الفرنسية والسلطة المغربية بعد انهزام هذه الأخيرة في معركة إسلي، وقد تناولت رسم الحدود بين المغرب والجزائر ونتج عن ذلك اقتطاع مساحة شاسعة من الراضي المغربية وضمّها إلى الأراضي الجزائرية.
[2]- محمد بن عزوز حكيم ومحمد مولاطو، المرأة المغربية والمقاومة المسلحة في شمال المغرب، مجلة التعاون، عدد: 23، 1991، ص. 29-30.
[3]- للمزيد من المعلومات انظر: علال الفاسي، عيون المقالات، ع.9-10، الدار البيضاء، 1987م، ص.92.
[4]- انظر حول هذا الموضوع: مارية دادي، دور المرأة المغربية في مقاومة الاستعمار الأجنبي، مقارنة بين المرأة الريفية والمرأة الفاسية، ندوة المقاومة المسلحة والحركة الوطنية بالمنطقة الوسطى الشمالية ما بين 1911-1956، فاس، دجنبر 1995م، نشر المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الرباط، 1997م.
[5]- هذه المعلومات استقيناها من عند أحمد المنصوري، في كتابه كباء العنبر، ولقد رأيت هذا المنديل أو السبنية بنفسي في معرض المندوبية السامية الذي أقيم على هامش ندوة المقاومة بمدينة خنيفرة في شهر نوفمبر1999م.
[6] - سورة الأحزاب، 23، 24.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.